jeudi 19 janvier 2017

نيران جاشي




النص
القصَّة أن رجلاً, في ماضي قديم من تاريخ بلادنا, حُكِمَ عليه بالسجن. ولم تكن الحياة قد رزقته من بهيج الدنيا غير زوجة أحبها وأحبته. تقاسما كل شيء حتى مغبَّة الفقر. وقد كانت إمرأةً فاتنة, حسناء جملاء, ممشوقة القوام, هيفاء, ملساء, نهداها منتصبتان تكادان تعرجان صوب السماء. أخلصت له العشق واصطبرت على سجنه, وظلت مُخلصة, لا تترك يوم زيارةٍ إلاَّ وحملت له ما صنعت يداها من طعام وخيرٍ وأتته من أصقاع المدينة. ظلَّت على تلك الحال أشهراً طوال. ه وتروي الحكاية أيضاً أنَّ مدير السجن كان كلما رآها إلاَّ وإلتهمها بنظرات الشهوة الجارفة. وكان كلما أتمَّت زيارتها إلاَّ وحادثها. سعى مراراً لصرفها عن إخلاصها لزوجها السجين. لم يترك حيلةً إلاَّ وإستعملها لإقناعها, ولا حجَّةً إلاَّ ووظَّفها. كان يُخبرها أنَّ زوجها سيطول به السجن ولن تراه مجدَّداً إلاَّ بعد أن يطعن فيه العمر. وأنها لازالت تامَّة الفتنة والجمال, وأنَّ من نكد الدنيا عليها أن تبقى بلا قرين يُؤنس وحدة لياليها... إصطبرت طويلاً على مراودة مدير السجن لها. سعت جاهدةً لطرد كلامه من ذهنها. ولكنَّ الوحدة كانت أبلغ من كل قول السجاَّن. كلما وقفت أمام المرآة لتصفِّفَ شعرها تذكَّرت ما كان يقُول لها, وتسائلت: لمن تتزيَّن ؟ لمن تُبدي زينتها ؟ وقد كان يحدثُ في بعض لياليها أن يهجرها النوم ساعة ظلمة, فتتحسس السرير علَّها تلامسُ دفئاً ذكورياًّ, فلا تُصيبُ أناملها غير صوف الغطاء الأغلظ. ه لم يكن مدير السجن يُغريها. ولكنها قد فقدت منذ زمنٍ طويل من يُوقض في باطنها هوسها بنفسها. ذاك الهوسُ الملازم لكل أنثى. كانت كلماته أشبه بفيض ماء دافق يتسلل إليها فيُشبع أنوثتها الظمأى... وكان إلى كل ذلك يعدها بالزواج إن طلَّقت زوجها السجين, وبالعيش الهانئ والمسكن الأمين, بعيداً عن مغبَّة الفقر والبؤس والشقاء, التي لازمتها طول سنين...ه تقلَّصت زياراتها لزوجها حتَّى تلاشت تماماً. أماَّ هو فلم يكن يدري من داخل حبسه أنَّ إمرأته قد طلَّقته لتسكن للعيش مع زوجها الجديد, مدير السجن. ه كان من عادة مدير السجن أن يُكلِّف حراس السجن بأن يحملوا إلى بيته كل أسبوع أحد المساجين لكي يعتني بالحديقة ويحرثها ويقلِّم نباتها وأشجارها. وقد حدث أن كُلِّف الزوج السجين بذلك يوماً. وفي ذلك اليوم, بينما كان يُجهد نفسه بالحرث, تحت شمس الهاجرة الحارقة, إذ بإمرأة مدير السجن تأتي صوبه حاملةً إناء ماءٍ لكي يروي عطشه ويبلل وجهه المُلتهب... رفع رأسه نحوها ليحمل عنها الإناء, فرآها, هيَ, ذات المرأة التي قرن قلبه بها لسنين, وقاسمها تفاصيل الحياة, وطوَّق عنقها بأحلامه... هي... زوجته... صارت زوجة مدير السجن... إمتزج الحزن باللوعة بالصدمة بالغضب بالغصَّة للحظة في صدره. أماَّ هي فتركت الإناء بين يديه ورجعت تركض لبيتها, كهاربٍ من ماضي أمرج نفسه لينساه. ء أخذه يومها السجاَّن وأحكم وثاقه وأرجعه لزنزانته, حتَّى يتَّقيَ إحتقانه. هناك, في الزنزانة, ظلَّ يتمتم كلاماً مُبهماً, حسبه رفاق السجن هذاياناً, ولكنه كان نظماً... كان كلما أتمَّ نظم أبياتٍ متتاليات إلاَّ وصاح: نــيـــــران جــــــاشي شــــــاعلـة ميــقـــــــــودة أتمَّ كتابة القصيدة, تلك القصيدة التي حمَّلها كل أحزانه ولوعته, وشحنها مما كاد ينفلق به صدره. خطَّها على جدران زنزانته. وكان رفاقه في السجن يحفظونها عن ظهر قلب, يُلحنونها ويرددونها في مجالسهم. وما من أحد كان يعلم قصتها. ه تتالت السنين وحان يوم خروجه من السجن. إصطفَّ رفاق الحبس ليودِّعوه. ولكنهم طلبوا منه أن يقص على مسامعهم قصَّة نشأة قصيدته, وأن يُلقيها مرَّةً أخيرة على مسامعهم. ه أبى في البدء, ولكنه إستكان لإلحاحهم. روى لهم شأنه مع زوجته ومدير السجن, وكان كلما أوغل في سرد الرواية إلاَّ وتذكَّر أنه يُغادرُ حبساً ليوغل في حبسِ آخر, علَّه أشد قسوةٍ ووقعا. إلى ما الخروج ؟ ولا حبيبٌ, أيضاً. ه كان يسرد قصته والإرتعاش يقضُّ صوته...ء ألقى القصيدة كاملةً عليهم. وما أن أتم البيت الأخير من القصيد "نيران جاشي شاعلة ميقودة", حتى أطلق زفرة حسرةٍ تردد صداها في أرجاء السجن وأودت بحياته ومات هي زفرةُ كل المهمشين والمقموعين والمظلومين... تستحيلُ فناًّ أحياناً, أو ثورة